عقل الثورة وقلبها ..عمر المختار
عمر عاصي وهنادي قواسمي - الجزيرة توك
أحياناً تجتمع أحداث الزمان بشكل غريب في حياتنا، فينما تحل علينا اليوم (16 أيلول) ذكرى
استشهاد المجاهد عمر المختار ، قدمت إيطاليا وقبل حوالي أسبوعين اعتذارها الرسميّ لليبيا عن
احتلال أراضيها مدة 40 عاماً. هذا الاعتذار جاء مصحوباً بتعويضات مالية ، حيث تلتزمُ إيطاليا
بدفع 5 مليارات دولار سنوياً لليبيا على مدار 25 عاماً. كل ذلك وسط قراءات مختلفة في مغزى
ذلك الاعتذار ، فبينما اعتبره البعض انتصاراً سياسياً ، اعتبره آخرون تمهيداً لعودة الاستعمار
بشكل آخر، ووسط تساؤلات كثيرين حول المبلغ المدفوع ومدى ملائمته لاحتلال نهب البلاد وعذب
العباد 40 عاماً.
وبينما تبقى أمور السياسية متداولة بين السياسيين والنقاد، نتركها لهم، وننتقل لنطلع على جوانب
من حياة المجاهد عمر المختار .
وُلِد عمر المختار الذي يمتد نسبه إلى إحدى قبائل قريش والملقب بأسد الصحراء سنة 1858 في
قرية تُدعى (جنزور الشرقية ) التي تقع شرق ليبيا على الحدود المصرية. انتقل المختار إلى بلدة
(الجغنوب) حيث تتلمذ على يد مشايخ السنوسية، من أبرزهم قطب الحركة السنوسية في ليبيا
المهدي السنوسي فدرس علوم اللغة العربية والعلوم الشرعية وحفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب.
ويشير معاصروه أنه تمتع بالعقل الرزين وبدت عليه علامات النجابة، مما ساهم في تقريبه من
شيوخ الحركة السنوسية، فصاحب كبارهم، ولثقتهم فيه ولوه شيخا على زاوية القصور بالجبل
الأخضر. بعد ذلك بفترة هاجر المختار إلى تشاد حيث شارك في صفوف المجاهدين ضد الاستعمار
الفرنسي هناك، وقضى حياته هناك معلماً ومبشراً بالإسلام إلى أن عاد مرة أخرى إلى الجبل
الأخضر.
وما أجمل العلم حين يمشي على أرض الواقع على شكل تطبيقات عملية، فليس المختار من
العلماء القاعدين ، أو ممن يفنون أوقاتهم في نشر العلم، وحين ينادي منادي الجهاد يتوانون ، فما
أن ظهرت بوادر الحرب الإيطالية على ليبيا حتى سارع بالانضمام إلى صفوف المجاهدين ، و قدم
رمزا للجهاد كان نموذجا يحتذى به وأسطورة قلما وجد في طيات الزمن مثيلها ..
ففي عام 1906 م حين عاد عمر المختار إلى الجبل الأخضر ليستأنف عمله في الزاوية لم ينقضي
وقت طويل حتى بدأت المعارك الضارية بين الحركة السنوسية والبريطانيين في منطقة البردى
ومساعد والسلوم على الحدود الليبية المصرية ، انتهت بضم السلوم إلى الأراضي المصرية تحت
ضغوط الدولة العثمانية .
تلك المقارعات كانت كفيلة بانتشار أمر الشيخ عمر المختار في الأراضي الليبية . وجعلته بارعاً
في الشؤون العسكرية .
ومع اندلاع الحرب الليبية الإيطالية عام 1911 م كان عمر المختار متواجداً في واحة جالو ،
فانطلق مُسرعاً إلى زاوية القصور وأمر بتجنيد كل من يصلح للجهاد وبدأت المقارعات والمعارك
تدور بينهم وبين العدو ليلاً ونهارا ً حتى أن غنائمهم كانت تفوق الحصر . وبهذا بدأت سلسلة
المعارك التي كان أهمها معركة بئر الغبي ومعركة أم الشفاتير .
في المفاوضات .. !
بعد الهزائم المتتالية والخسائر الفادحة التي لحقت بالحكومة الإيطالية في عام 1927 م مما أدى
إلى أزمة كبيرة في روما ، واستقالة كبار المسؤولين مثل وزير المستعمرات ووالي برقة ووالي
طرابلس ، كان لا بد من أن يعيد الطليان النظر في خططهم العسكرية والإدارية . وبعد عدة محاولات
نجح المستعمر في إقناع عمر المختار بالتفاوض فكان عمر المختار يركز على المحافظة على
هوية الشعب وعقيدته ودينه ولغته وحفظ أوقاف الزوايا وإعطائه الحق في اخذ أموال الزكاة
الشرعية من القبائل . فكان الطليان يبدون الموافقة على الشروط وهم رافضون لها أساساً .
واستمرت الاجتماعات واللقاءات بين الطرفين حتى كشف زيف ما يرمون إليه من تفرقة الشعب
الليبي وتمزيقه
الوقوع في الأسر ..
في احدى المعارك عثر الطليان عقب انتهاء المعركة على نظارات الشيخ عمر المختار، فأصدر
غراسياني منشوراً ضمنه هذا الحادث حاول فيه أن يقضي على ( أسطورة عمر المختار الذي لا
يقهر أبداً ) فقال متوعداً : ( لقد أخذنا اليوم نظارات المختار وغداً نأتي برأسه ) .
هذه الحادثة كانت البداية للنهاية ففي مرحلة متقدمة ، وبسبب غرتسياني الذي كان يكن حقداً عجيباً
تجاه الإسلام والمسلمين ، وبسبب السياسة الجديدة التي بدأت الحكومة الإيطالية باتباعها آنذاك
سواء كان ذلك في اعتقال القبائل في معسكرات واسعة أو في مد الأسلاك الشائكة لفصل برقة عن
مصر وحشد الجيوش والمعدات الحربية لاحتلال الكفرة وهي أهم المناطق التي كان يعتمدها
المجاهدون ، فكانت المعركة الضارية وتم احتلال الكفرة .
في 11 سبتمبر من عام 1931 م حيث كان المختار في جولة في الجبل الأخضر وبالأخص في
وادي الجريب وهو وادي عظيم بات فيه المجاهدين ليلتين ، علمت إيطاليا عن خبرهم بواسطة
جواسيسها فأمرت بتطويق الوادي على عجل من جميع الجهات بعد أن جمعت كل ما عندها من قوة
قريبة وبعيدة ، فالتحمت المعركة حتى حصد العدو عدداً كبيراً من القتلى، وسقط الشهداء فأُصيب
عمر المختار بجراح في يده وأصيب فرسه بضربة قاتلة وحُصرت يده السليمة تحت الفرس فلم
يتمكن من سحبها ولم تسعفه يده الجريحة .
في تلك الأثناء حاول بعض رفاقه أن يعودوا لتخليصه ولكن الرصاص كان ينهال عليهم كالمطر
وحصد أرواح كثيرين منهم . ولما تمّ التعرف على شخصه ، نقل على الفور إلى ميناء سوسة
محاطاً بعدد كبير من الضباط والجنود الإيطاليين . ثم نقل إلى بنغازي عن طريق البحر .
المحاكمة !
في الساعة الخامسة من مساء يوم 15 سبتمبر 1931 جرت المحاكمة الصورية الشكلية والتي
كانت نتيجتها معروفة مسبقاً. وكان دور المحامي المعهود اليه بالدفاع عنه قال بما معناها انه
يقترح ان يعاقب عقاباً أشد هولاً من الإعدام ويقصد الحكم بالسجن لمدى الحياة نظراً لكبر سنه
وشيخوخته . فتدخل المدعي العمومي مدعياً أن الدفاع خرج عن الموضوع وليس من حقه التكلم
عن كبر سن عمر المختار فوافقته المحكمة .
هنا تكلم المحامي بشدة وقال كلمات لا تخرج إلا من محام يعرف العدل والعدالة فحذر المحكمة
بقوله : إنني "أحَذِرُ عدالة محكمتكم حكم التاريخ لأنه لا يرحم فهو عجلة تدور وتسجل كل ما يحدث
في هذا العالم المضطرب ".
وبعد أن قام النائب العام ليقاطع المحامي في كلامه رفعت الجلسة ، وبعد المداولات صدر الحكم
حيث كان : الإعدام شنقاً حتى الموت . ولما ترجم الحكم لعمر المختار قهقه بكل شجاعة قائلا :
"الحكم حكم الله لا حكمكم المزيف ، إنا لله وإنا إليه راجعون".
إعدام عمر المختار !
في يوم 16 سبتمبر من صباح يوم الأربعاء من سنة 1931 م عند الساعة التاسعة صباحا جمع
الطليان الحشود من الأهالي والأعيان في بنغازي لحضور تنفيذ الحكم ، أما المختار فتقدم نحو
المشنقة بقدم ثابتة وشجاعة نادرة وهو ينطق بالشهادتين . ونفِّذ الحكم فيه فانتقلت روحه إلى
بارئها .
قالوا عنه :
يقول الشاعر خليل مطران :
أبيت والسيف يعلو الرأس تسليماً .. وجدت بالروح جود الحر إن ضيما
لله يا عمر المختار حكمته .. في أن تلاقي ما لاقيت مظلوما
ان يقتلوك فما إن عجلوا أجلا ... قد كان مذ كنت مقدورا ومحتوما
. قال أحد الإيطاليين فيه وصفه : كان عمر المختار مخلصاً وذكياً وكان عقل الثورة وقلبها ببرقة .
. قال الأستاذ حسين الغناي أحد شعراء الشباب الليبيين :
إذا عُدّ ( عمر ) و ( إبن الوليد ) ... و ( عقبة ) ثم صحابته
وأمثالهم نخبة المــسلمين .. رجـــال الفتوح وقادتــه
فـ ( مختار ) برقة ذاك الأبي ... الذي طافت الأرض شهرته
. قال غرتسياني في كتابه برقة الهادئة : هذا الرجل أسطورة الزمان الذي نجا الاف المرات من
الموت ومن الأسر واشتهر عند الجنود بالقداسة والإحترام ، لانه الرأس المفكر والقلب النابض
للثورة العربية الإسلامية في برقة وكذلك كان المنظم للقتال بصبر ومهارة فريدة لا مثيل لها سنين
طويلة والآن وقع أسيراً بين أيدينا .
. ومما اشتهر من الشعر في رثاء عمر المختار قول الشاعر أحمد شوقي:
ركزوا رفاتك في الرمال لــواء **يستنهض الوادي صــبــاح مســــــــــاء
يا ويحهم نصبــوا منارا من دم** يوحي إلى جيــل الغد البغــضــــــــاء
ما ضر لو جعلوا العلاقة في غد **بين الشعــوب مــــــودة وإخــــــــــاء
جرح يصيح على المدى وضحية** تتلمس الحــــــــرية الحمـــــــــــراء
يأيها السيـف المجـــرَّد بالفلا** يكسو السيوف على الزمـــان مضــــــــاء
تلك الصحارى غمد كل مهــند** أبلى فأحسن في العـــــــدو بــــــــــلاء
. قال عنه المهدي السنوسي :" لو كان عندنا عشرة مثل عمر المختار لاكتفينا بهم".
إضافة إلى ما قيل عنه، فقد أنتج عام 1981 فيلم اشتهربين الناس كثيراً وحاز على إعجابهم باسم
" أسد الصحراء" أخرجه المخرج السوري مصطفى العقاد، ومثل دور المختار فيه الممثل
الأمريكي أنتوني كوين.
من أقواله :
عندما عرض عليه ترك الجهاد والذهاب إلى الحج قال : لن أذهب ولن ابرح هذه البقعة حتى يأتي
رسل ربي وإن ثواب الحج لا يفوق ثواب دفاعنا عن الوطن والدين والعقيدة .
ومن أكثر ادعيته كانت : اللهم اجعل موتي في سبيل هذه القضية المباركة .
. وعندما اقترح عليه ترك الجهاد لكبر سنه قال : إن كل من يقول لي هذا الكلام لا يريد خيراً لي ،
لأن ما أشير فيه إنما هو طريق خير ولا ينبغي لاحد أن ينهاني عن سلوكها وكل من يحاول ذلك فهو
عدو لي .
وعن تمسكه بالسنوسية يقول : إنني اعرف أن قيمتي في بلادي اذا ما كانت لي قيمة انا وامثالي
فإنها مستمدة من السنوسية .
قال رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم - : ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ) .