سليمان علية السلام
معجزات عن الجن والنملة والعرش
قال تعالى: {ولسليمان الرياح غدوّها شهر ورواحها شهر وأرسلنا له عين القطر, ومن الجن من يعملبين يديه باذن ربه, ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير} سبأ 12.
1. الجن
خرج سليمان عليه السلام كعادته الى بيتالمقدس, وكانت العاصفة شديدة, وبقي هناك في محرابه, يعبد الله حتى انتصف الليل, فلما همّ للعودة, تجلى له نور الله عز وجل, وشعر كأن روحه تهيم في تلك الأشعةالنورانية, فانطلق لسانه وتحرّكت شفتاه فقال:{ وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعديانك أنت الوهاب} ص 35.
شعر سليمان عليه السلام كأنه في حلم لميستيقظ منه الا في الصباح فعاد الى قصره وجلس على عرشه يفكر فيما رآه من محرابه, وفيما دعا به ربه. فسمع هاتفا يهتف به ويقول له: لقد استجاب الله دعاءك, وسخر لك فيملكه ما لم يسخره لغيرك.
سخر الله سبحانه عز وجل الرياح لسليمانتجري بأمره حيث يشاء فتسقط الأمطار, وتسوق السفن.
وسخر له الجنوالشياطين, يعملون له ما يريد من بناء المساكن والقصور, واصلاح الأرض للزراعة, وحفرالآبار لريّها.
وأخضع الله سبحانه وتعالى لسليمان الطير والحيوان, فكان هؤلاء وهؤلاء من رعاياه المخلصين.
وكان سليمان عليه السلامعبدا شكورا, يحمد الله وكان من عباد الله المخلصين. فقال عليه السلام:
رب, بما أنعمت عليّ وعلى والديّ, سأهب نفسي لطاعتك والجهاد فيسبيلك, فوفقني الى طريقك المستقيم.
سأحارب الفقر الذي يذل عبادكالمخلصين.
سأعلن الحرب على الظلم الذي فتن عبيدك الأولين.
سأجاهدما حييت المشركين بك, الخارجين عن طاعتك.
عند ذلك سمع الملائكةتقول آمين. فسجد لله القوي العزيز.
وحرص سليمان عليه السلام أن لايفتنه الشيطان بالملك الواسع الذي وهبه الله له والقوى الخارقة التي لم يهبها اللهلأحد من قبله ولا لأحد من بعده.
سخر سليمان عليه السلام كل هذهالنعم التي أنعم الله بها عليه للاصلاح والتعمير, فخرجت السفن تدفعها ريح سليمان, وعادت تحمل المتاجر من البلاد النائية والجزية من ملوك الأرض والأقطار الواسعة, وقامت شياطين الجن بحفر الآبار وبنائها في الصحراء, واصلاح الأراضي المحيطة بها, وقطع الأحجار من الجبال, وبناء المدن والأمصار بشوارعها الممهدة, وميادينهاالفسيحة, وجعلت في وسط كل ميدان قدرا كبيرا من الحجر المنحوت, يشبه وعاء الطعام, ولكنه عظيم الاتساع, وتأتي السحب بعد ذلك فتملؤه بمياه الأمطار, فاذا هي كبيرةعظيمة الاتساع, تكسب الميادين بهجة وجمالا فاذا أخذت المدينة زخرفها وازينت أقبلالناس على سكناها وبذر البذور في الوادي المحيط بها, وريّها بمياه الأمطار والآبارفتخضرّ الأرض, ويعم الخير, ويعيش الناس في رخاء يعبدون الله الواهب الرزاق.
وكثرت عمارة المدن, وزراعة الصحارى, وعاش بنو اسرائيل في نعيم مارأوا مثيله في غابر الأيام والأزمان.
وكان قصر سليمان قصرا رائعا, بل يعدّ من أروع ما تمّ تشييده في هذا الوقت, فأحجاره من الرخام المرمر, وجدرانهوسقفه مموّهة بالذهب الخالص, وبالقرب من مساكن الجند وحظائر الخيل, وتحت القصرخزائن الملك في جوف الأرض, يهبطون اليها في سراديب ممتدّة بين قاعاتها, وفي نهايتهاأبواب ضخمة, وقف على كل منها ماردان من عفاريت الجان.
ومن المعجزاتالتي أنعم الله بها على سليمان, أن الشياطين كانت تخرج كل يوم الى الجبال: بعضهمينبشونها ويستخرجون دفائنها من الذهب والماس, وآخرون يغوصون في البحار يصيدون حبّاتاللؤلؤ الثمينة, ويعود هؤلاء وهؤلاء في المساء, فيضعون ما جمعوا في خزائن سليمان, ثم يغلقون أبواب الخزائن كلها, ويخرجون من سراديبها الى بهو القصر العظيم, فتغلقالبوابة الكبرى, ويقف لحراستها ماردان من أشراف الجان, لا تغمض لهما عين.
كانوا يخرجون في كل يوم ويعودون, حتى امتلأت خزائن الأرض بالمعادنالنفيسة, والأحجار الكريمة التي لا يجرؤ على الدنو منها والاقتراب منها انس ولاجان.
وكان سليمان عليه السلام يعاقب من يخالفه من الشياطين عقاباصارما, فيحبسه في قارورة من زجاج فلا يستطيع الفرار منها طول حياته, وفي يوم جيء لهبأحد الشياطين مقيدا بالأغلال, فلما سأل عن ذنبه قيل له: انه قد أضاع لؤلؤة كبيرةخرج بها من البحر, ولم يودعها خزائن الملك.
قال سليمان: أين خبأتهاأيها العفريت؟
قال الشيطان: لقد غصت مع الغائصين, وخرجت بلؤلؤة فيحجم رأس الانسان, ما رأى أحد مثلها في جمالها, وروعة بريقها, وظننت أنني بهذهاللؤلؤة سأحظى برضاك عني طول حياتي, ولكنني عند العودة فوجئت بمارد جبّار قد انقضعلي من السماء, وخطفها مني ثم انطلق في الجو نحو الجنوب, واختفى بين طيّات السحاب, فما استطعت اللحاق به.
قال سليمان: اذا كان حقا ما تقول فاني سأعرضالجن عليك لتخرجه من بينهم.
قال الشيطان: لو كان هذا الجني منمملكتك لما استطاع أن يفرّ مني, ولكنه جنيّ من نوع آخر يعيش في مملكة أخرى.
عندئذ أمر سليمان عليه السلام بسجنه حتى يرى مبلغ صدقه, ودعا وزيره"آصف" وكان وزيرا حكيما, وعالما, فرآى الوزير أن الجني صادق فيما يقوله, فقاللسليمان: يا نبي الله؛ ان الشياطين لا تهتم بجمع اللآلىء بنفسها, ولا بد أنها مسخرةلملك من الانس, ولقد ساق الله اليك هذا الحادث ليذكرك بما أخذته على نفسك وهوالجهاد في سبيل الله بما وهب لك من القرى, فشغلك جمع النفائس عن الوفاء بوعدك, وأرىأن تجدّ في البحث وراء هذا المارد حتى تهتدي الى الملك الذي أرسله وربما وجدته منالمجوس الذين يتخذون لهم أربابا من دون الله عز وجل.
أمر سليمانباطلاق سراح الجني الذي صاد اللؤلؤة, ومكث بعد ذلك ساعة مطرقا يفكر في كلام وزيره, ثم ذهب الى محرابه في بيت المقدس حتى منتصف الليل, وفي الصباح أمر أن يتهيأ الجيشللزحف نحو الجنوب.
2. حديث النملة
خرج سليمان يوماعلى صهوة جواد أشهب وعن يمينه فرسان الانس على خيول حمر, وعن يساره فرسان الجن علىخيول سود, وخلفه المشاة الذين لا يحصى عددهم من الانس ومردة الجن, وانتشرت الطيورجماعات في السماء, تحجب أشعة الشمس المحرقة عن هذا الجيش العظيم الذي لم ير الناسمثله.
تحرّك الجيش الى الجنوب وظل أيام يضرب في مجاهل الصحراء حتىأشرف على وادي النمل فقالت نملة:
{ يا أيها النمل ادخلوا مساكنكملا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون} النمل 18.
سمع سليمانعليه السلام قولها, وفهم حديثها, فتبسّم ضاحكا من قولها وقال:
{ ربّ أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديّ وأن أعمل صالحا ترضاه}. النمل 19.
أحسّ سليمان بالمعجزة التي أنعم الله بها عليه وهي أنهيسمع قول نملة في باطن الأرض لا ترى بالعين المجرّدة ويفهم لغتها, ذلك أمر لا يؤتىلأحد غير سليمان عليه السلام وبمشيئة الله وقدرته عز وجل.
أمرسليمان عليه السلام فضربت الخيام, واستراح الجيش أمام وادي النمل يوما وليلة, ولمّاتهيأ الجيش بعد ذلك للرحيل, جمع فتات الطعام, فاتخذ النمل طريقه اليه ينقله الىبيوته, وتحوّل جيش سليمان عليه السلام الى طريق آخر في الصحراء, فظلوا سائرين فيهاليالي وأيّاما, ولم يصادفوا واحة ينزلون بها, أو عينا يشربون منها حتى نفذ ما كانمعهم من الماء, وأقبل السقاؤون على سليمان يخبرونه حقيقة الأمر.
واستخدم سليمان عليه السلام ما أتاه الله من فضل, بل نقول أنهاستخدم المعجزة التي حباه الله اياها وهي تسخير الجن له فأصدر سليمان أمره الىشياطين الجن بحفر الآبار واخراج الماء من باطن الأرض, فحفروا ولكنهم لم يجدوا ماءفأعادوا الحفر في أكثر من جهة, فما خرج الماء في واحدة منها, وعادوا الى سليمانبخيبة الأمل.
قيل لسليمان عليه السلام: ان الهدهد وحده هو الذييعرف بفطرته أماكن الماء في طبقات الأرض, وهو الذي يستطيع أن يخبرنا عن ماء قريب منالسطح.
قال سليمان لحاجبه: عليّ بالهدهد.
خرجالحاجب وعاد ليقول: ان الهدهد ليس موجودا يا مولاي.
غضب سليمانعليه السلام, وخرج يتفقد الطير, فوجد مكان الهدهد خاليا فقال:
{ مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين} النمل 20.
قال الغراب: لقدرأيته ينطلق نحو الجنوب في صحبة هدهد آخر من طيور هذه الأرض.
قالسليمان: لأعذبنه عذابا شديدا, أو لأذبحنّه, أو ليأتيني بدليل قوي يبرر به سببعصيانه أمري ومخالفته تعليماتي.
فقال "آصف" وزير سليمان عليهالسلام: ان هذه أول مخالفة تصدر من طير ضعيف, كان مثالا للطاعة والولاء, ولا بد أنفي الأمر سرّا.
قال سليمان: أي سر يختفي وراء غياب الهدهد؟!.
قال آصف: أخشى أن قد اقتربنا من وادي الجان, واستعملت أبالستهمالسحر والخداع فأضلتنا عن مكان الماء وأسرت الهدهد حتى لا يكتشف لنا ينابيعه.
وقد أخبرني أحد الشياطين أنه سمع في جوف الجبل عزيف الجن, وحاول أنيتفقد أثرهم فما عرف طريقهم, ولا مكانهم, وأبدى خوفه من أن نكون قد وقعنا في أسرمارد جبار من شياطين الجن.
تبسّم سليمان عليه السلام لهذا الخبرالعجيب, وقال: الحمد لله الذي هدانا اليهم, وان النصر لقريب.
كانأمر الماء يشغل سليمان, لأن جنوده يشعرون بالعطش وفي هذا الأمر خطر على حياتهم, فخرج عليه السلام من خيمته وأمر الريح العاصف بحمل السحب الماطرة اليه. فهبت الرياحمن الشمال والجنوب, وساقت أمامها السحب ونزل المطر غزيرا من السماء, فملئت القدوروالقرب والمواعين وشرب الجيش ماء عذبا, وحمدوا الله جميعا على رحمته, وجليل نعمته, وهذه معجزة من معجزات نبي الله سليمان عليه السلام.
نعود الىالهدهد الذي ترك مكانه بين الطيور, بدون اذن من سليمان عليه السلام فانه نظر الىمواعين الماء فوجدها فارغة, فخاف أن يكوت جيش سيده من العطش, فترك مكانه وأسرع الىالأمام يجدّ في البحث عن الماء, فوج طبقات الأرض كلها صخور صمّاء, ليس بها عين منعيون الماء, وصادفه في طريقه هدهد آخر مقبل من الجنوب, فتعارفا وتطوّع هدهد الجنوب, وأرشده الى ينبوع عظيم.
انطلق الهدهدان حتى أتيا واديا خصيبا, ثموقفا يستريحان على شجرة في بستان كبير مملوء بالأشجار والورود والأزاهير وفي وسطهبحيرة واسعة, يخرج الماء اليها من عيون الأرض. فينساب في الجداول بين نبات الأرضوأشجارها.
فرح هدهد سليمان, واستأذن صديقه هدهد الجنوب أن يعود الىسيّده ليخبره بما رأى, ولكن هدهد الجنوب استوقفه وقال له: أنت لم تر الا شيئاصغيرا, فتعال معي لتشاهد عزا وملكا كبيرا خلف هذا الوادي, حتى اذا عدت الى سيّدكأخبرته بكل ما رأيت, فيكون لخبرك أثر عظيم في نفسه.
قال هدهدسليمان: وماذا تريني بعد؟
قال هدهد الجنوب: انطلق معي لتشاهدبعينيك.
طار الهدهدان وتخطيا جبلا عاليا, ثم هبطا على واد أخضر بهزرع نضير, وقصور فخمة, ثم اتجها نحو قصر بديع فوق ربوة عالية, فدهش هدهد الشمال بمارأى من مناظر العز والجاه, ومظاهر الملك والسلطان, فقال لصاحبه: عجبا ما رأيت مثلهذا الا في ملك سليمان في الشمال.
قال هدهد الجنوب: وما ملك سليمانهذه بجانب ملك "بلقيس" في الجنوب, اهبط معي من هذه الفتحة لتشاهد هذه المملكةالرائعة وقومها وهم يعبدون الشمس.
هبط الهدهدان, ورأى هدهد سليمانالقوم يسجدون للشمس من دون الله, فراغه ذلك, ثم ذهب به هدهد الجنوب الى قصر "بلقيس" وأراه عرشها العظيم, ثم قال له: انظر الى هذه اللؤلؤة الكبيرة, هل عند سيّدك مثلها؟
قال هدهد سليمان: كيف وصلت اليها هذه اللؤلؤة؟
قالهدهد الجنوب: جاء بها عفريت من الجن منذ شهر.
قال هدهد سليمان: اذنهذه لؤلؤة سليمان التي خطفها عفريتكم من يد الجني الذي صادها والويل لكم من سليمان.
قال هدهد الجنوب: ليس الأمر كما تظن ف "بلقيس" تملك الجن كما تملكالانس, وأخشى على ملكك أن يغترّ بقوته, ويقدم على محاربتها, فيذوق ذل الأسر والهوانعلى يد جنودها.
ورغم أن هدهد الجنوب بالغ في القول على علاقة الجنببلقيس لأن هذا الأمر لم يعطى الا لسليمان عليه السلام, فقد سمع هدهد سليمان كلهذا, ورأى ما رأى, ثم عاد مسرعا الى سليمان, فوجد سحبا كثيرة تسقط الأمطار والقوميشربون.
وصل الهدهد, هدهد سليمان, الى مقرّه, وتقدّم في ذلة وخضوعالى الملك سليمان فوجده ساخطا عليه, وخاف على نفسه سوء العاقبة.
قال سليمان: أين كنت أيها الهدهد؟ وما سبب مخالفتك أمري؛ وترككمكانك بدون اذني؟!
قصّ الهدهد على سليمان قصته كلها.
ابتسم سليمان وقال: { سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين* اذهب بكتابيهذا فألقه اليهم ثم تولّ عنهم فانظر ماذا يرجعون} النمل 27-28.
حملالهدهد رسالة سليمان الى بلقيس وطار بها الى قصرها فوجدها جالسة على عرشها, وأمامهاحاشيتها ووزراؤها فأسقط الخطاب في حجرها واختفى وراء ستار النافذة.
كانت بلقيس قد عقدت مجلس الشورى للنظر في الأخبار التي جاء بهاالجن عن سليمان وجيوشه, فلما وقعت الرسالة في حجرها عجبت لذلك, ثم قرأتها علىالحاضرين, جاء في الرسالة:{ انه من سليمان وانه بسم الله الرحمن الرحيم* ألا تعلوعليّ وأتوني مسلمين} النمل 30-31.
فقالت لهم بلقيس:{ أفتوني فيأمري}.
قالوا:{ نحن أولو قوة وأولو بأس شديد والأمر اليك فانظريماذا تأمرين}.
قالت بلقيس:{ ان الملوك اذا دخلوا قرية أفسدوهاوجعلوا أعزة أهلها أذلة} ولقد سمعت بسليمان من قبل, ولا أرغب في حرب أخشى منهاالهوان لقومي.
واني مرسلة الى سليمان بهدية, فان كان من طلابالدنيا قنع بها ورجع عنها, وان رفضها فهو صاحب مبدأ, لا ينثني عنه, وعند ذلك نذهباليه مسلمين قبل أن يأخذنا أسرى مقيّدين.
ذهب رسول بلقيس الىسليمان وقدّم بين يديه صندوقا مملوءا بالذهب والأحجار الكريمة.
قالسليمان: من أين هذا؟
قال: هدية من ملكتنا "بلقيس" الى الملكسليمان.
قال سليمان: { أتمدونن بمال فما آتان الله خير مما آتاكمبل أنتم بهديتكم تفرحون} النمل 36.
{ارجع اليهم فلنأتينهم بجنود لاقبل لهم بها ولنخرجهم منها أذلة وهم صاغرون} النمل 37.
عاد الرسولالى بلقيس, وأخبرها بما سمع, فأمرت قومها أن يحملوا راية بيضاء, وخرجت بهم الىسليمان عليه السلام في موكب عظيم, ولكن سليمان سيستبق وصول هذا الموكب بمعجزة تدهشلها بلقيس, ترى ما هذه المعجزة, وماذا ستكون؟
3. العرش ومعجزةالاتيان به
علم الهدهد من خلال طيرانه ورحلاته أن بلقيس خرجت, فعادالى سليمان وأخبره بخروجها, فأمر الجن أن يعدوا لها بنيانا تنزل فيه, فبنوا صرحا منقوارير خضر, وجعلوا له طوابق من قوارير بيض, فصار كأنه الماء, وجعلوا تحت الطوابقصور دواب البحر من السمك وغيره, فأصبح الذي ينظر الى أرضه الزجاجية يظن أنها بحيرةبمائه وأسماكها.
ولما ظهر ركب " بلقيس" في الأفق البعيد, جمعسليمان أهل الرأي من الانس والجان, وقال لهم: { أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتونيمسلمين}.
فوقف عفريت من الجن وقال:{ أنا آتيك به قبل أن تقوم منمقامك} أي قبل أن تنتهي من مجلسك.
قال سليمان:{ سوف لا ينتهي مجلسيقبل حضورها.
قال وزيره "آصف" وكان رجلا عنده علم من الله سبحانهوتعالى:{ أنا آتيك به قبل أن يرتد اليك طرفك}.
رفع سليمانعليه السلام نظره الى السماء, وسجد "آصف" ودعا ربه سبحانه وتعالى, فاذا العرشأمامهم, فلما نظر سليمان الى الأرض, ورأى العرش سرّ سرورا كثيرا, وأمر بوضعه أمامهمقلوبا.
أقبلت "بلقيس" فرأت عرشها مقلوبا أمام سليمان, وعجبت كثيرالأنها تركته بقصرها في حراسة شديدة, ثم نظرت الى قومها فوجدتهم جميعا في ذهول.
قال سليمان: أهكذا عرشك؟
قالت: كأنه هو, ولقدأتيتك بقومي مسلمين.
قال سليمان: الآن أنت وقومك, في أمان, وستظلينمليكة قومك تصرّفين أمورهم, وتحكمينهم بما أمر الله.
طلبت "بلقيس" السماح لها بالعودة الى قومها لتبشرهم بالدين الجديد, فعرض عليها سليمان أن تستريحمن عناء السفر قبل العودة فقبلت دعوته, وخرجت لتغير ملابسها في خيمتها, وذهب سليمانالى الصرح فجلس على كرسي وانتظر قدومها.
أقبلت "بلقيس" في زينتهاالى مدخل الصرح, ووجدت سليمان في نهاية البهو يرحب بمقدمها, فلما نظرت الى أرضهحسبتها حوضا مملوءا بالماء, وخشيت أن تبتل ملابسها, فكشفت عن ساقيها لتخوض الماء.
قال سليمان: {انه صرح ممرّد} من قوارير زجاجية.
فخجلت من جهلها, وأقرّت لسليمان بالنبوّة, ولربه بالعظمةوالقوّة,وقالت في حماسة ويقين:
ربّ, اني ظلمت نفسي بعبادة الشمس, وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين.
ورجعت الى قومها مؤمنة, وصارتترسل الجزية في كل عام الى سليمان.
4. معجزة عند الموت
قضى سليمان سنواته الباقية من حياته يقود رعيته بالعدل, ويتقرّبالى ربه بالعبادة, وقد اختار لعبادته مكانا ببيت المقدس,لا يجرؤ أحد على الدنو منهما دام هو قائم يصلي في المحراب.
فلما علم أنه حان حينه, وانتهىأجله, توكأ على عصاه, وخرج الى المسجد الأقصى, فدخل المحراب, واتجه الى الله مرتكزاعلى عصاه, فقبضه ملك الموت, وظل جثمانه واقفا تسنده العصا أياما, والناس والجن لايدرون بموته, ولا يجرؤون على الاقتراب منه في محرابه, حتى تآكلت العصا, لقد أكلتهاحشرة الأرض, فانكسرت العصا, ووقع الجثمان على الأرض فشاع الخبر, وشيّعته بنواسرائيل الى مثواه, وعادوا من قبره يرددون: سبحانك اللهم! تؤتي الملك من تشاء, وتنزع الملك ممك تشاء.
هكذا كانت معجزات سليمان عليه السلام فهويكلم النمل والطير والحيوان, ويسخر الرياح والجن بأمر ربه, وعندما يموت يموت هكذا, انها معجزات عظيمة وملك لم يؤت لأحد من بعد سليمان عليهالسلام.
سليمان علية السلام
معجزات عن الجن والنملة والعرش
قال تعالى: {ولسليمان الرياح غدوّها شهر ورواحها شهر وأرسلنا له عين القطر, ومن الجن من يعملبين يديه باذن ربه, ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير} سبأ 12.
1. الجن
خرج سليمان عليه السلام كعادته الى بيتالمقدس, وكانت العاصفة شديدة, وبقي هناك في محرابه, يعبد الله حتى انتصف الليل, فلما همّ للعودة, تجلى له نور الله عز وجل, وشعر كأن روحه تهيم في تلك الأشعةالنورانية, فانطلق لسانه وتحرّكت شفتاه فقال:{ وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعديانك أنت الوهاب} ص 35.
شعر سليمان عليه السلام كأنه في حلم لميستيقظ منه الا في الصباح فعاد الى قصره وجلس على عرشه يفكر فيما رآه من محرابه, وفيما دعا به ربه. فسمع هاتفا يهتف به ويقول له: لقد استجاب الله دعاءك, وسخر لك فيملكه ما لم يسخره لغيرك.
سخر الله سبحانه عز وجل الرياح لسليمانتجري بأمره حيث يشاء فتسقط الأمطار, وتسوق السفن.
وسخر له الجنوالشياطين, يعملون له ما يريد من بناء المساكن والقصور, واصلاح الأرض للزراعة, وحفرالآبار لريّها.
وأخضع الله سبحانه وتعالى لسليمان الطير والحيوان, فكان هؤلاء وهؤلاء من رعاياه المخلصين.
وكان سليمان عليه السلامعبدا شكورا, يحمد الله وكان من عباد الله المخلصين. فقال عليه السلام:
رب, بما أنعمت عليّ وعلى والديّ, سأهب نفسي لطاعتك والجهاد فيسبيلك, فوفقني الى طريقك المستقيم.
سأحارب الفقر الذي يذل عبادكالمخلصين.
سأعلن الحرب على الظلم الذي فتن عبيدك الأولين.
سأجاهدما حييت المشركين بك, الخارجين عن طاعتك.
عند ذلك سمع الملائكةتقول آمين. فسجد لله القوي العزيز.
وحرص سليمان عليه السلام أن لايفتنه الشيطان بالملك الواسع الذي وهبه الله له والقوى الخارقة التي لم يهبها اللهلأحد من قبله ولا لأحد من بعده.
سخر سليمان عليه السلام كل هذهالنعم التي أنعم الله بها عليه للاصلاح والتعمير, فخرجت السفن تدفعها ريح سليمان, وعادت تحمل المتاجر من البلاد النائية والجزية من ملوك الأرض والأقطار الواسعة, وقامت شياطين الجن بحفر الآبار وبنائها في الصحراء, واصلاح الأراضي المحيطة بها, وقطع الأحجار من الجبال, وبناء المدن والأمصار بشوارعها الممهدة, وميادينهاالفسيحة, وجعلت في وسط كل ميدان قدرا كبيرا من الحجر المنحوت, يشبه وعاء الطعام, ولكنه عظيم الاتساع, وتأتي السحب بعد ذلك فتملؤه بمياه الأمطار, فاذا هي كبيرةعظيمة الاتساع, تكسب الميادين بهجة وجمالا فاذا أخذت المدينة زخرفها وازينت أقبلالناس على سكناها وبذر البذور في الوادي المحيط بها, وريّها بمياه الأمطار والآبارفتخضرّ الأرض, ويعم الخير, ويعيش الناس في رخاء يعبدون الله الواهب الرزاق.
وكثرت عمارة المدن, وزراعة الصحارى, وعاش بنو اسرائيل في نعيم مارأوا مثيله في غابر الأيام والأزمان.
وكان قصر سليمان قصرا رائعا, بل يعدّ من أروع ما تمّ تشييده في هذا الوقت, فأحجاره من الرخام المرمر, وجدرانهوسقفه مموّهة بالذهب الخالص, وبالقرب من مساكن الجند وحظائر الخيل, وتحت القصرخزائن الملك في جوف الأرض, يهبطون اليها في سراديب ممتدّة بين قاعاتها, وفي نهايتهاأبواب ضخمة, وقف على كل منها ماردان من عفاريت الجان.
ومن المعجزاتالتي أنعم الله بها على سليمان, أن الشياطين كانت تخرج كل يوم الى الجبال: بعضهمينبشونها ويستخرجون دفائنها من الذهب والماس, وآخرون يغوصون في البحار يصيدون حبّاتاللؤلؤ الثمينة, ويعود هؤلاء وهؤلاء في المساء, فيضعون ما جمعوا في خزائن سليمان, ثم يغلقون أبواب الخزائن كلها, ويخرجون من سراديبها الى بهو القصر العظيم, فتغلقالبوابة الكبرى, ويقف لحراستها ماردان من أشراف الجان, لا تغمض لهما عين.
كانوا يخرجون في كل يوم ويعودون, حتى امتلأت خزائن الأرض بالمعادنالنفيسة, والأحجار الكريمة التي لا يجرؤ على الدنو منها والاقتراب منها انس ولاجان.
وكان سليمان عليه السلام يعاقب من يخالفه من الشياطين عقاباصارما, فيحبسه في قارورة من زجاج فلا يستطيع الفرار منها طول حياته, وفي يوم جيء لهبأحد الشياطين مقيدا بالأغلال, فلما سأل عن ذنبه قيل له: انه قد أضاع لؤلؤة كبيرةخرج بها من البحر, ولم يودعها خزائن الملك.
قال سليمان: أين خبأتهاأيها العفريت؟
قال الشيطان: لقد غصت مع الغائصين, وخرجت بلؤلؤة فيحجم رأس الانسان, ما رأى أحد مثلها في جمالها, وروعة بريقها, وظننت أنني بهذهاللؤلؤة سأحظى برضاك عني طول حياتي, ولكنني عند العودة فوجئت بمارد جبّار قد انقضعلي من السماء, وخطفها مني ثم انطلق في الجو نحو الجنوب, واختفى بين طيّات السحاب, فما استطعت اللحاق به.
قال سليمان: اذا كان حقا ما تقول فاني سأعرضالجن عليك لتخرجه من بينهم.
قال الشيطان: لو كان هذا الجني منمملكتك لما استطاع أن يفرّ مني, ولكنه جنيّ من نوع آخر يعيش في مملكة أخرى.
عندئذ أمر سليمان عليه السلام بسجنه حتى يرى مبلغ صدقه, ودعا وزيره"آصف" وكان وزيرا حكيما, وعالما, فرآى الوزير أن الجني صادق فيما يقوله, فقاللسليمان: يا نبي الله؛ ان الشياطين لا تهتم بجمع اللآلىء بنفسها, ولا بد أنها مسخرةلملك من الانس, ولقد ساق الله اليك هذا الحادث ليذكرك بما أخذته على نفسك وهوالجهاد في سبيل الله بما وهب لك من القرى, فشغلك جمع النفائس عن الوفاء بوعدك, وأرىأن تجدّ في البحث وراء هذا المارد حتى تهتدي الى الملك الذي أرسله وربما وجدته منالمجوس الذين يتخذون لهم أربابا من دون الله عز وجل.
أمر سليمانباطلاق سراح الجني الذي صاد اللؤلؤة, ومكث بعد ذلك ساعة مطرقا يفكر في كلام وزيره, ثم ذهب الى محرابه في بيت المقدس حتى منتصف الليل, وفي الصباح أمر أن يتهيأ الجيشللزحف نحو الجنوب.
2. حديث النملة
خرج سليمان يوماعلى صهوة جواد أشهب وعن يمينه فرسان الانس على خيول حمر, وعن يساره فرسان الجن علىخيول سود, وخلفه المشاة الذين لا يحصى عددهم من الانس ومردة الجن, وانتشرت الطيورجماعات في السماء, تحجب أشعة الشمس المحرقة عن هذا الجيش العظيم الذي لم ير الناسمثله.
تحرّك الجيش الى الجنوب وظل أيام يضرب في مجاهل الصحراء حتىأشرف على وادي النمل فقالت نملة:
{ يا أيها النمل ادخلوا مساكنكملا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون} النمل 18.
سمع سليمانعليه السلام قولها, وفهم حديثها, فتبسّم ضاحكا من قولها وقال:
{ ربّ أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديّ وأن أعمل صالحا ترضاه}. النمل 19.
أحسّ سليمان بالمعجزة التي أنعم الله بها عليه وهي أنهيسمع قول نملة في باطن الأرض لا ترى بالعين المجرّدة ويفهم لغتها, ذلك أمر لا يؤتىلأحد غير سليمان عليه السلام وبمشيئة الله وقدرته عز وجل.
أمرسليمان عليه السلام فضربت الخيام, واستراح الجيش أمام وادي النمل يوما وليلة, ولمّاتهيأ الجيش بعد ذلك للرحيل, جمع فتات الطعام, فاتخذ النمل طريقه اليه ينقله الىبيوته, وتحوّل جيش سليمان عليه السلام الى طريق آخر في الصحراء, فظلوا سائرين فيهاليالي وأيّاما, ولم يصادفوا واحة ينزلون بها, أو عينا يشربون منها حتى نفذ ما كانمعهم من الماء, وأقبل السقاؤون على سليمان يخبرونه حقيقة الأمر.
واستخدم سليمان عليه السلام ما أتاه الله من فضل, بل نقول أنهاستخدم المعجزة التي حباه الله اياها وهي تسخير الجن له فأصدر سليمان أمره الىشياطين الجن بحفر الآبار واخراج الماء من باطن الأرض, فحفروا ولكنهم لم يجدوا ماءفأعادوا الحفر في أكثر من جهة, فما خرج الماء في واحدة منها, وعادوا الى سليمانبخيبة الأمل.
قيل لسليمان عليه السلام: ان الهدهد وحده هو الذييعرف بفطرته أماكن الماء في طبقات الأرض, وهو الذي يستطيع أن يخبرنا عن ماء قريب منالسطح.
قال سليمان لحاجبه: عليّ بالهدهد.
خرجالحاجب وعاد ليقول: ان الهدهد ليس موجودا يا مولاي.
غضب سليمانعليه السلام, وخرج يتفقد الطير, فوجد مكان الهدهد خاليا فقال:
{ مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين} النمل 20.
قال الغراب: لقدرأيته ينطلق نحو الجنوب في صحبة هدهد آخر من طيور هذه الأرض.
قالسليمان: لأعذبنه عذابا شديدا, أو لأذبحنّه, أو ليأتيني بدليل قوي يبرر به سببعصيانه أمري ومخالفته تعليماتي.
فقال "آصف" وزير سليمان عليهالسلام: ان هذه أول مخالفة تصدر من طير ضعيف, كان مثالا للطاعة والولاء, ولا بد أنفي الأمر سرّا.
قال سليمان: أي سر يختفي وراء غياب الهدهد؟!.
قال آصف: أخشى أن قد اقتربنا من وادي الجان, واستعملت أبالستهمالسحر والخداع فأضلتنا عن مكان الماء وأسرت الهدهد حتى لا يكتشف لنا ينابيعه.
وقد أخبرني أحد الشياطين أنه سمع في جوف الجبل عزيف الجن, وحاول أنيتفقد أثرهم فما عرف طريقهم, ولا مكانهم, وأبدى خوفه من أن نكون قد وقعنا في أسرمارد جبار من شياطين الجن.
تبسّم سليمان عليه السلام لهذا الخبرالعجيب, وقال: الحمد لله الذي هدانا اليهم, وان النصر لقريب.
كانأمر الماء يشغل سليمان, لأن جنوده يشعرون بالعطش وفي هذا الأمر خطر على حياتهم, فخرج عليه السلام من خيمته وأمر الريح العاصف بحمل السحب الماطرة اليه. فهبت الرياحمن الشمال والجنوب, وساقت أمامها السحب ونزل المطر غزيرا من السماء, فملئت القدوروالقرب والمواعين وشرب الجيش ماء عذبا, وحمدوا الله جميعا على رحمته, وجليل نعمته, وهذه معجزة من معجزات نبي الله سليمان عليه السلام.
نعود الىالهدهد الذي ترك مكانه بين الطيور, بدون اذن من سليمان عليه السلام فانه نظر الىمواعين الماء فوجدها فارغة, فخاف أن يكوت جيش سيده من العطش, فترك مكانه وأسرع الىالأمام يجدّ في البحث عن الماء, فوج طبقات الأرض كلها صخور صمّاء, ليس بها عين منعيون الماء, وصادفه في طريقه هدهد آخر مقبل من الجنوب, فتعارفا وتطوّع هدهد الجنوب, وأرشده الى ينبوع عظيم.
انطلق الهدهدان حتى أتيا واديا خصيبا, ثموقفا يستريحان على شجرة في بستان كبير مملوء بالأشجار والورود والأزاهير وفي وسطهبحيرة واسعة, يخرج الماء اليها من عيون الأرض. فينساب في الجداول بين نبات الأرضوأشجارها.
فرح هدهد سليمان, واستأذن صديقه هدهد الجنوب أن يعود الىسيّده ليخبره بما رأى, ولكن هدهد الجنوب استوقفه وقال له: أنت لم تر الا شيئاصغيرا, فتعال معي لتشاهد عزا وملكا كبيرا خلف هذا الوادي, حتى اذا عدت الى سيّدكأخبرته بكل ما رأيت, فيكون لخبرك أثر عظيم في نفسه.
قال هدهدسليمان: وماذا تريني بعد؟
قال هدهد الجنوب: انطلق معي لتشاهدبعينيك.
طار الهدهدان وتخطيا جبلا عاليا, ثم هبطا على واد أخضر بهزرع نضير, وقصور فخمة, ثم اتجها نحو قصر بديع فوق ربوة عالية, فدهش هدهد الشمال بمارأى من مناظر العز والجاه, ومظاهر الملك والسلطان, فقال لصاحبه: عجبا ما رأيت مثلهذا الا في ملك سليمان في الشمال.
قال هدهد الجنوب: وما ملك سليمانهذه بجانب ملك "بلقيس" في الجنوب, اهبط معي من هذه الفتحة لتشاهد هذه المملكةالرائعة وقومها وهم يعبدون الشمس.
هبط الهدهدان, ورأى هدهد سليمانالقوم يسجدون للشمس من دون الله, فراغه ذلك, ثم ذهب به هدهد الجنوب الى قصر "بلقيس" وأراه عرشها العظيم, ثم قال له: انظر الى هذه اللؤلؤة الكبيرة, هل عند سيّدك مثلها؟
قال هدهد سليمان: كيف وصلت اليها هذه اللؤلؤة؟
قالهدهد الجنوب: جاء بها عفريت من الجن منذ شهر.
قال هدهد سليمان: اذنهذه لؤلؤة سليمان التي خطفها عفريتكم من يد الجني الذي صادها والويل لكم من سليمان.
قال هدهد الجنوب: ليس الأمر كما تظن ف "بلقيس" تملك الجن كما تملكالانس, وأخشى على ملكك أن يغترّ بقوته, ويقدم على محاربتها, فيذوق ذل الأسر والهوانعلى يد جنودها.
ورغم أن هدهد الجنوب بالغ في القول على علاقة الجنببلقيس لأن هذا الأمر لم يعطى الا لسليمان عليه السلام, فقد سمع هدهد سليمان كلهذا, ورأى ما رأى, ثم عاد مسرعا الى سليمان, فوجد سحبا كثيرة تسقط الأمطار والقوميشربون.
وصل الهدهد, هدهد سليمان, الى مقرّه, وتقدّم في ذلة وخضوعالى الملك سليمان فوجده ساخطا عليه, وخاف على نفسه سوء العاقبة.
قال سليمان: أين كنت أيها الهدهد؟ وما سبب مخالفتك أمري؛ وترككمكانك بدون اذني؟!
قصّ الهدهد على سليمان قصته كلها.
ابتسم سليمان وقال: { سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين* اذهب بكتابيهذا فألقه اليهم ثم تولّ عنهم فانظر ماذا يرجعون} النمل 27-28.
حملالهدهد رسالة سليمان الى بلقيس وطار بها الى قصرها فوجدها جالسة على عرشها, وأمامهاحاشيتها ووزراؤها فأسقط الخطاب في حجرها واختفى وراء ستار النافذة.
كانت بلقيس قد عقدت مجلس الشورى للنظر في الأخبار التي جاء بهاالجن عن سليمان وجيوشه, فلما وقعت الرسالة في حجرها عجبت لذلك, ثم قرأتها علىالحاضرين, جاء في الرسالة:{ انه من سليمان وانه بسم الله الرحمن الرحيم* ألا تعلوعليّ وأتوني مسلمين} النمل 30-31.
فقالت لهم بلقيس:{ أفتوني فيأمري}.
قالوا:{ نحن أولو قوة وأولو بأس شديد والأمر اليك فانظريماذا تأمرين}.
قالت بلقيس:{ ان الملوك اذا دخلوا قرية أفسدوهاوجعلوا أعزة أهلها أذلة} ولقد سمعت بسليمان من قبل, ولا أرغب في حرب أخشى منهاالهوان لقومي.
واني مرسلة الى سليمان بهدية, فان كان من طلابالدنيا قنع بها ورجع عنها, وان رفضها فهو صاحب مبدأ, لا ينثني عنه, وعند ذلك نذهباليه مسلمين قبل أن يأخذنا أسرى مقيّدين.
ذهب رسول بلقيس الىسليمان وقدّم بين يديه صندوقا مملوءا بالذهب والأحجار الكريمة.
قالسليمان: من أين هذا؟
قال: هدية من ملكتنا "بلقيس" الى الملكسليمان.
قال سليمان: { أتمدونن بمال فما آتان الله خير مما آتاكمبل أنتم بهديتكم تفرحون} النمل 36.
{ارجع اليهم فلنأتينهم بجنود لاقبل لهم بها ولنخرجهم منها أذلة وهم صاغرون} النمل 37.
عاد الرسولالى بلقيس, وأخبرها بما سمع, فأمرت قومها أن يحملوا راية بيضاء, وخرجت بهم الىسليمان عليه السلام في موكب عظيم, ولكن سليمان سيستبق وصول هذا الموكب بمعجزة تدهشلها بلقيس, ترى ما هذه المعجزة, وماذا ستكون؟
3. العرش ومعجزةالاتيان به
علم الهدهد من خلال طيرانه ورحلاته أن بلقيس خرجت, فعادالى سليمان وأخبره بخروجها, فأمر الجن أن يعدوا لها بنيانا تنزل فيه, فبنوا صرحا منقوارير خضر, وجعلوا له طوابق من قوارير بيض, فصار كأنه الماء, وجعلوا تحت الطوابقصور دواب البحر من السمك وغيره, فأصبح الذي ينظر الى أرضه الزجاجية يظن أنها بحيرةبمائه وأسماكها.
ولما ظهر ركب " بلقيس" في الأفق البعيد, جمعسليمان أهل الرأي من الانس والجان, وقال لهم: { أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتونيمسلمين}.
فوقف عفريت من الجن وقال:{ أنا آتيك به قبل أن تقوم منمقامك} أي قبل أن تنتهي من مجلسك.
قال سليمان:{ سوف لا ينتهي مجلسيقبل حضورها.
قال وزيره "آصف" وكان رجلا عنده علم من الله سبحانهوتعالى:{ أنا آتيك به قبل أن يرتد اليك طرفك}.
رفع سليمانعليه السلام نظره الى السماء, وسجد "آصف" ودعا ربه سبحانه وتعالى, فاذا العرشأمامهم, فلما نظر سليمان الى الأرض, ورأى العرش سرّ سرورا كثيرا, وأمر بوضعه أمامهمقلوبا.
أقبلت "بلقيس" فرأت عرشها مقلوبا أمام سليمان, وعجبت كثيرالأنها تركته بقصرها في حراسة شديدة, ثم نظرت الى قومها فوجدتهم جميعا في ذهول.
قال سليمان: أهكذا عرشك؟
قالت: كأنه هو, ولقدأتيتك بقومي مسلمين.
قال سليمان: الآن أنت وقومك, في أمان, وستظلينمليكة قومك تصرّفين أمورهم, وتحكمينهم بما أمر الله.
طلبت "بلقيس" السماح لها بالعودة الى قومها لتبشرهم بالدين الجديد, فعرض عليها سليمان أن تستريحمن عناء السفر قبل العودة فقبلت دعوته, وخرجت لتغير ملابسها في خيمتها, وذهب سليمانالى الصرح فجلس على كرسي وانتظر قدومها.
أقبلت "بلقيس" في زينتهاالى مدخل الصرح, ووجدت سليمان في نهاية البهو يرحب بمقدمها, فلما نظرت الى أرضهحسبتها حوضا مملوءا بالماء, وخشيت أن تبتل ملابسها, فكشفت عن ساقيها لتخوض الماء.
قال سليمان: {انه صرح ممرّد} من قوارير زجاجية.
فخجلت من جهلها, وأقرّت لسليمان بالنبوّة, ولربه بالعظمةوالقوّة,وقالت في حماسة ويقين:
ربّ, اني ظلمت نفسي بعبادة الشمس, وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين.
ورجعت الى قومها مؤمنة, وصارتترسل الجزية في كل عام الى سليمان.
4. معجزة عند الموت
قضى سليمان سنواته الباقية من حياته يقود رعيته بالعدل, ويتقرّبالى ربه بالعبادة, وقد اختار لعبادته مكانا ببيت المقدس,لا يجرؤ أحد على الدنو منهما دام هو قائم يصلي في المحراب.
فلما علم أنه حان حينه, وانتهىأجله, توكأ على عصاه, وخرج الى المسجد الأقصى, فدخل المحراب, واتجه الى الله مرتكزاعلى عصاه, فقبضه ملك الموت, وظل جثمانه واقفا تسنده العصا أياما, والناس والجن لايدرون بموته, ولا يجرؤون على الاقتراب منه في محرابه, حتى تآكلت العصا, لقد أكلتهاحشرة الأرض, فانكسرت العصا, ووقع الجثمان على الأرض فشاع الخبر, وشيّعته بنواسرائيل الى مثواه, وعادوا من قبره يرددون: سبحانك اللهم! تؤتي الملك من تشاء, وتنزع الملك ممك تشاء.
هكذا كانت معجزات سليمان عليه السلام فهويكلم النمل والطير والحيوان, ويسخر الرياح والجن بأمر ربه, وعندما يموت يموت هكذا, انها معجزات عظيمة وملك لم يؤت لأحد من بعد سليمان عليهالسلام.